الكويت كحال باقي بلدان العالم التي انجبت علماء كبار .. ظهر منها من طل على مجتمعها بأفكار و أدبيات جديدة لم يعهدها الناس من قبل. و لكن كما يقول الفيلسوف الأنجليزي جون لوك ( الأفكار الجديدة هي موضع شك دائماً و تتم مقاومتها غالباً لسبب أنها لم تصبح شائعة بعد ) و نستذكر في ذلك هجرة ( الجامعي الأول بتاريخ الكويت ) الشيخ الأزهري مساعد البريكي في أوائل القرن الماضي إلى البحرين نتيجة بعض آراءه السياسية و دعوته لتعليم البنات ، في الوقت الذي كانت فيه المرأة عورة بأكملها! و نذكر أيضاً الشاعر فهد العسكر الذي ازدراه جيله و أنصفته الأجيال اللاحقة.
في الخمسينيات ولد أحمد مبارك البغدادي في خضم أجواء مشتعلة ( إيدلوجياً ) و ناشطة سياسياً كان لها الأثر في تفكيره. إتجه في شبابه لدراسة العلوم السياسية في جامعة الكويت و من بعدها حصل على الماجستير في الفكر السياسي الغربي من جامعة كلارك الأمريكية حتى حصل على الدكتوراة في الفكر الإسلامي من جامعة ادنبرة الاسكتلندية.
استلهامه الفكر الإسلامي السياسي من ابن تيمية و ابن القيم الجوزية و الماوردي ، و تشربه للفكر السياسي الغربي الذي نضج على افكار على فلاسفة العقل و دعاة الحرية .. كون له قاعدة انطلق بها لعالم الفكر و السياسة غير آبه بما سيحصل جراء ذلك متسلح بالجرأة التي يتسم بها و بالحرية التي ينشدها!
كتب في عدة صحف محلية شاكس بها تيارات الظلام و الرجعية و دك حصونهم ، و قام بإعداد عدة بحوث و كتب تدرس في العديد من الجامعات و أبرز كتاب له هو الذي كان بعنوان ( تجديد الفكر الديني - دعوة لإستخدام العقل ) الصادر في عام 1996 و يدور محور الكتاب حول إخراج الفكر الإسلامي من وحل الجمود و الإنغلاق و التطرف ، و إصلاحه ليواكب الحداثة البشرية و العصر و مستجداته و ليتوافق مع العقل الذي لولاه لما آمنا بالله .. فمن لا يفهم لا يؤمن و ( العقل رسول الحق ) مثلما قال الإمام علي عليه السلام ، و يقول في هذا الصدد أيضاً أحد أعلام الكويت الشيخ يوسف بن عيسى القناعي في ( الملتقطات ):
لأن العقل أصل النقل .. مهما تأوله ونكبه رجوعا
يخالف أصله سقطاً جميعا .. اذا ما النقل خالف حكم عقل
طوال مسيرته دخل في مواجهات عديدة مع شخوص الإسلام السياسي إذ يعتبرون اغلب ما يقوله من المحرمات ، فلم تكفهم السباب و التأثيم و فتاوى الطعن بالجملة! إذ وصلوا إلى حد المحاكم لينالوا من الدكتور البغدادي .. ليس فقط المحاكم الكويتية بل الخليجية حتى !!
طعنوا في شخصه و دينه و علاقته بربه .. فهل كان بالفعل كذلك ؟!
إن من ينشد الإصلاح يهدف لتلافي السلبيات و إحلال الإيجابيات ، و دعوة البغدادي للإصلاح الديني في عدة كتابات و مؤلفات له دلالة على حبه لدينه. و موقفه من الدين يلخصه قوله الآتي: ( لا مجال للخروج من المأزق الذي يعيشه المسلمون الآن ، سوى التقدم بمفاهيم جديدة تتلاءم مع روح العصر و مقتضيات وقائعه ، ولا يعني ذلك رفض المفاهيم الدينية أو إنكارها ، فالدين أساسي لكل مجتمع ، إذ لا روح لمجتمع لا دين فيه ) من كتابه "تجديد الفكر الديني" ص 203
و أكثر ما يعيب به الإسلاميون الدكتور أحمد البغدادي و محبيه هو اتهامهم له بسب النبي و إساءة الأدب معه! و لإزالة الشك باليقين و لتوضيح الملابسات ، فإن ما قاله الدكتور البغدادي كان رد على إصدار قانون منع الاختلاط في جامعة الكويت .. و لنقرأ الجزئية - كاملة - التي أثارت الإسلامويين .. يقول الدكتور البغدادي:
( لقد فشل النبي صلى الله عليه و سلم في فرض الإسلام على المجتمع المكي مدة ثلاثة عشر عاماً إلى حين دخل الإسلام قلوب الأنصار من أهل يثرب أليس في هذا الأمر إلهام عبرة ؟! لم تكن في المدينة جماعات التأسلم السياسي ، و لم يكن هناك أخوان ولا سلف ولا حزب تحرير ولا جماعة تبليغ. كل ما هناك إسلاماً بسيطاً نقياً خالصاً يدخل القلوب بالكلمة الطيبة ) من "مجلة الشعلة" في عددها الصادر بتاريخ 25/7/1996
هل فيما قاله الدكتور فيه قلة أدب مع الرسول الأكرم ؟! و كيف يقل أدبه و هو قام بالصلاة على النبي ؟! و كيف يسيء لحامل رسالة الإسلام و هو مدح الرسالة المحمدية ؟! .. قبح الرب المتعجرفين مالكم كيف تحكمون ؟!
قاموا ببتر و لي عنق حديث الدكتور البغدادي و صبوا جام تركيزهم و غضبهم على كلمة "فشل النبي" و هذه الكلمة - و إن كنت اعتبرها شخصياً خطأ - لا تستحق كل هذا التهويل و التصعيد و الشتائم! فجل من لا يسهو و ليس بزماننا هذا من هو معصوم عن الخطأ. إلا أن هذا الهجوم ثبت أنه هجوم سياسي لا ديني و كعادة المتأسلمين حين يفلسون و يعجزون فكرياً مع خصومهم السياسيين ، إذ يقومون بلحاف قضاياهم و خصوماتهم بغطاء ديني لأكسابهم شرعية مزعومة أمام العامة التي تنحني بكل سهولة أمام أصحاب اللحى الطويلة و الدشاديش القصيرة "المقصملة" !!
و ما يدلل على صحة مقولتنا من أن هجوم تيارات التدين السياسي هجوم إنتقائي له دوافع شخصية سياسية ، ما كتبه النائب و الوزير السابق الإسلامي يوسف سيد هاشم الرفاعي في جريدة الرأي العام بعددها رقم 11798 ، حيث كان رده دفاعاً عن الحق و متضمناً أدلة شرعية عدة. يلخص الأستاذ يحيى الربيعان الرد المطول للرفاعي بهذا الإيجاز:
( سماحة الإسلام تتسع لغلطة البغدادي لأنه لم يقصد نية التحقير وغيره· فهناك من العلماء الذين تدرس كتبهم قالوا أفظع مما قاله· كما أن المقال الذي نشره في مجلة الشعلة الطلابية، لم يكن مخصصا للنيل من قدر النبي العظيم، وإنما جاءت كلمة "الفشل" استطرادا وفي سياق الكلام عن تطور مراحل الدعوة الإسلامية بين مكة والمدينة حسب فهم الدكتور البغدادي، وهذا الموضوع "عدم نجاح الدعوة في مكة حيث انطلقت ونجاحها في المدينة" إنما هو بإرادة وحكمة وتقدير من الله، ولم يكن بتقصير في جهد بشري من صاحب الدعوة وقائد المسيرة بإذن ربه ... إن هناك بعد ما تقدم من كون الدكتور استبعد سوء القصد والنية في مقالته، إنه أساء التعبير فاستعمل كلمة "فشل بدلا من كلمة لم ينجح" مما اعتبره بيان فتوى الأوقاف داخلا "تحت باب سوء الأدب" مع الرسول الكريم، وهنا أحب أن أقول: إن غيره من العلماء والمبرزين الذين تدرس كتبهم في الجامعات وكلية الشريعة مع الأسف، قد تجاوزوا ما قاله الدكتور البغدادي، الذي هو رجل أكاديمي وقد يعذر إذا فاتته الآداب الشرعية التي لم يدرسها أو يطلع عليها، ولم يعترض عليهم أحد حتى الآن ).
و مع كل هذا تم الحكم بالسجن في عام 1999 على الدكتور أحمد البغدادي بتهمة الإساءة إلى النبي الأكرم في سابقة تحدث لأول مرة في دولة الكويت المشهود لها بحريتها كما كان سابقاً و كما هو مفترض "دستورياً" !
هذا الحكم و غيره من الأحكام و القضايا .. كلها محاولات يائسة من أصحاب شهوة تكميم الأفواه باءت بالفشل ، فلم تثن الدكتور البغدادي كل هذه المحاولات عن سيره في درب التنوير و الترويج لأفكاره الليبرالية و العلمانية. هذه الأفكار التي أصبحت شتيمة لمن يحملها أو يؤمن بها! و خصوصاً العلمانية التي يصنفها تيار الجهل المعرفي و التيار الإسلاموي المتشدد بأنها عبارة عن ( إلحاد ) و إنحلال عن الأخلاق و القيم الدينية و تغريب للمجتمع و فسق و فجور و كفر ... إلخ من التخاريف الدينية!
و لإنارة الظلام و كبح جماح التضليل الواقع على من يأخذ هذا الإنطباع الخاطئ عن العلمانية ، يعرف الدكتور أحمد البغدادي العلمانية ببساطة في قوله:
( التعريف الأكاديمي للعلمانية هو القاضي بفصل الدين عن التشريع و السياسة و الأقتصاد ) .. و يمضي قائلاً بالحديث حول العلمانية و يقول عن واقع العلمانية في الدول المعاصرة التي تبنتها: ( المفاهيم السياسية التي فرضتها العلمانية مبدأ فصل السلطات ، و سيادة الأمة ، و الدستورية و الديمقراطية ، و كذلك المفاهيم القانونية بإقرار قواعد قانونية عامة مثل لا عقوبة إلا بنص ، و نفي المرجعية الدينية كأساس للنص القانوني ، و إلغاء الحدود أو العقوبات الدينية ، إضافة إلى الفصل بين القضاء الشرعي و القضاء المدني ، و الفصل بين التعليم الديني و التعليم المدني ) من كتابه "تجديد الفكر الديني" ص 53 و 55.
في الأمس و بعد رحلة مريرة مع المرض استمرت لعدة شهور .. رحلت هذه القامة الفكرية العملاقة عنا إلى الباري عز و جل ، رحل عنا بجسده لكنه سيبقى بفكره و حراكه التنويري. نعزي القلم الجريء و الفكر الحر و الثقافة العربية قبل أن نعزي أنفسنا ، و ليفرح أعدائه برحيله فهم تخلصوا ممن كان يعريهم و يجردهم من تصنعهم!